المجتمع الاستهلاكي حوّل مواطني البلدان المتقدمة إلى مرفهين

تم النشر في الخميس 2018-11-29

كان معظم الناس وخاصة الذين يشتغلون في حقل الزراعة، في المجتمعات القديمة التي يفصلنا عنها العشرات من السنين، يتمتعون باكتفاء ذاتي إضافة إلى أنهم كانوا يعملون بجد ويستهلكون القليل من السلع. وفي أيامنا هذه، اختلف الأمر كثيرا وصارت لدينا شعوب مستهلكة بصورة غير مسبوقة خاصة للسلع الكمالية فيما أصبح الإنتاج والاكتفاء الذاتي شيئين نادرين، قلما يهتم بهما الناس المدفوعون برغبة جارفة في السعي وراء كل ما هو حديث وبرّاق، وغير مفيد بالضرورة، للحاق بركب الدعاية التي تحاصرهم في يقظتهم ومنامهم.

ليست كل السلع الاستهلاكية، بالضرورة، تافهة وغير ذات جدوى؛ فالاستمتاع بامتلاك أشياء حديثة مثل بعض المقتنيات كساعة فاخرة، أو سيارة، أو جهاز إلكتروني أو حتى فستان جميل، قد يكون حقا لمن يمتلك ثمنه شرط أن يستحقه، أي أن يكون ثمرة عمل وجهد وتمرين مفيد للعقل والجسد معاً.

ويمتلك بعض الناس وظائف مرموقة أو بعض الحرف النادرة، التي تعزز دخولهم وتجعلهم في مقدمة المستهلكين للسلع الكمالية بصورة خاصة، لكن في حدود المعقول.

ويبدو هذا المعقول في صيغة مطاطية قابلة للتمدد إلى أقصى حدودها عند البعض الآخر من الناس؛ فإذا امتلك رجل أعمال سيارة حديثة جدا بمواصفات وخيارات متعددة فما الداعي لامتلاك عشر سيارات أخرى بألوان وموديلات متعددة؟ وإذا كانت سيدة الأعمال تمتلك خاتماً من الألماس النادر تتباهى به في المناسبات الاجتماعية المهمة، فما الداعي للمرور بمحل المجوهرات كل شهر لمراكمة الخواتم والأساور في صندوق مجوهراتها؟

يسري هذا المعنى في وقتنا الراهن على الطبقات الاجتماعية المتباينة بعد أن كان حكرا على الطبقات البورجوازية؛ فالمستهلك اليوم قد يكون موظفا بدخل متوسط أو عاملة بدخل محدود حيث يزعم بعض المتخصصين بأن حياة الناس العاديين في المجتمعات المتقدمة، أصبحت تفوق حياة الملوك والأمراء في الماضي، بالنظر إلى تنوع السلع الاستهلاكية والمقتنيات المتنوعة إضافة إلى سهولة الحصول عليها.

السؤال المهم هنا، لماذا تدفع الرغبة ببعض الناس للاستهلاك لمجرد الاستهلاك من دون وجود حاجة فعلية لذلك، ولماذا يشعر بعض الناس بأنهم مدفوعون من الخلف بتأثير قوى خفية لتكرار هذا السلوك حتى من دون وعي أو رغبة حقيقية؟

ومع ارتفاع الأجور مثلا في مجتمعات البلدان المتقدمة، يمكن للشخص شراء منزل أفضل وأثاث وملابس أفضل، وعندما ترتفع مستويات المعيشة أكثر فإن المستهلكين لا يقنعون بواقعهم حيث يسعون دائماً إلى الأفضل من دون تفكير؛ هناك دائما شخص أفضل منا لديه منزل أفخم من منزلنا، سيارة أحدث، ويستطيع إرسال أطفاله إلى مدارس أفضل بكثير كما بإمكان الزوجات أن ينفقن ببذخ على المجوهرات وعمليات التجميل. وهذا الأمر قد لا يشمل بالضرورة أبناء الطبقة الغنية.

ويؤكد أستاذ علم النفس في جامعة ولاية نيويورك، مايغل باربر؛ وهو باحث دولي غزير الإنتاج في مجال علم النفس التطوري، أن الحاجة لاقتناء السلع الاستهلاكية للأشخاص العاديين زادت بسبب تسلط وسائل الإعلام والتطور الذي شهدته تقنيات الاتصالات الحديثة. كانت البداية، بعد أن دخل التلفزيون إلى بيوت الناس في بدايات ومنتصف القرن الماضي واستحواذه على اهتمامهم فبدأت المقارنة غير المتوازنة بين السلع التي تملأ منازلهم، والسلع الفاخرة التي تزين شاشة التلفزيون وما يعرضه من صور جاذبة للعين.

المجتمع الاستهلاكي أقام هويته الخاصة وحدد وضعه الاجتماعي، في حين أن التقنية تحول أي منتوج إلى بضاعة غير مفيدة

وبدأ الطلب على السلع الاستهلاكية بشكل غير مسبوق هكذا، ثم تطور الأمر حتى اقتحم الإنترنت حياة البسطاء فصاروا يجلسون على مقاعد مهترئة في منازلهم، وهم يتنقلون بحرية في بيوت المشاهير حول العالم وكانت وما زالت المقارنة ظالمة. أما الفرق بين اليوم والأمس القريب، فيتمثل بسرعة اتخاذ القرار من قبل المستهلك وسرعة وسهولة وصول السلعة إلى باب منزله، فالأمر لم يعد يتطلب سوى نقرات بسيطة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر وديون متراكمة على بطاقة البنك.

ويتصرف المستهلكون العاديون اليوم على غرار ما كان يفعل أفراد النخب في الماضي، حتى أفقر شريحة في المجتمع تتطلع إلى اقتناء السلع الفاخرة من الساعة ذات الماركات العالمية إلى الأحذية، والنظارات الشمسية وحتى الأجهزة الإلكترونية والسيارات.

ويصف علماء الاقتصاد ثقافة الاستهلاك باعتبارها أهم رذيلة للمجتمعات الأوروبية، لأنها تقوم على شراء الأشياء التي سنرميها بعيدا حين يروق لنا ذلك، أو تحل محلها أشياء أحدث رغم أنها ما زالت صالحة وظيفيا.

ومن خلال هذه الثقافة، أقام المجتمع الاستهلاكي هويته الخاصة به وحدّد وضعه الاجتماعي، في حين أنّ التقنية قصّرت من عمر أي منتوج لأنه سرعان ما يتحول إلى بضاعة غير مفيدة عندما يتجاوز مدة من الزمن، فيضطر المستهلك إلى تغييره واقتناء منتوج جديد وأكثر كفاءة من وجهة نظره أو نظر الماكنة الدعائية.

ويرى باربر بأن مواطني المجتمعات الحديثة يسابقون الزمن ويبذلون الجهد في العمل من أجل أن يستهلكوا السلع غير الضرورية في أوقات استراحتهم من العمل، ثم يواصلون العمل بجد أكبر لسداد قيمة فواتير استهلاكهم وكأنهم يدورون في حلقة مفرغة، وهم في كل ذلك، يعيشون في ترف مشابه لحياة الملوك الذين نسمع عنهم في التاريخ من دون أن يدركوا هذا، إلا أن التحسن في المعيشة في البلدان المتقدمة حقيقي وجوهري وغير مسبوق تاريخياً على الرغم من أن المتشائمين لا يمكنهم قبول هذه الحقيقة بسبب تركيزهم على حقيقة التوزيع غير المتكافئ للثروات. وعلى الرغم من معرفتنا بأن الثروة هي سيد قاس إلا أننا ما زلنا فضوليين لمعرفة المزيد عن الأشخاص الآخرين الذين أصبحوا أفضل حالاً مما نحن عليه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock