مقالات

الميزانية السعودية.. من كشف حساب إلى خريطة طريق للتحول والنمو الشامل

عندما تُعلن الميزانية السنوية لدولة بحجم وثقل المملكة العربية السعودية، فإن النظرة التقليدية تختزلها في مجرد كشف حساب مالي، جدول يوازن بين الإيرادات والمصروفات، ومؤشر بسيط للعجز أو الفائض. لكن هذا الاختزال يغفل عن حقيقة أعمق وأكثر تعقيداً: الميزانية ليست وثيقة محاسبية بل هي فعل إرادة سيادية، خريطة طريق استراتيجية تُترجم الرؤى الطموحة إلى التزامات مالية ملموسة. إنها ليست قراءة للماضي، بل هي هندسة للمستقبل، وهذا هو المنظور الذي يجب أن يُقرأ به الإعلان الأخير عن أضخم إنفاق في تاريخ المملكة الحديث.

إن حجم الإنفاق المعتمد، الذي تجاوز التريليون وثلاثمائة مليار ريال، ليس رقماً عابراً يمكن مقارنته بميزانيات السنوات الماضية فحسب، بل هو إعلان عن استمرار النهج التوسعي الذي يتبناه صانع القرار الاقتصادي، وهو نهج يرى في الإنفاق الرأسمالي الضخم على المشاريع النوعية ليس عبئاً على الخزانة، بل وقوداً ضرورياً لعملية التحول الهيكلي. هذا الإنفاق الاستراتيجي يهدف إلى خلق زخم لا يمكن للقطاع الخاص أن يولده بمفرده في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الاقتصاد الوطني، وهو ما يفسر الإصرار على ضخ مبالغ هائلة في قطاعات البنية التحتية، وتطوير المدن، والخدمات اللوجستية التي ستكون عصب الاقتصاد غير النفطي مستقبلاً.

لقد أظهرت الأرقام التقديرية للإيرادات، التي قاربت التريليون ومائة وخمسين مليار ريال، تحولاً نوعياً في مصادر الدخل. فبينما يظل النفط لاعباً رئيسياً، فإن النمو المتسارع في الإيرادات غير النفطية هو القصة الحقيقية التي تستحق التأمل. هذا النمو، الذي تجاوزت نسبته التوقعات في الأعوام الأخيرة، يؤكد أن جهود تنويع مصادر الدخل قد بدأت تؤتي ثمارها بشكل هيكلي، وليس مجرد تقلبات عابرة. إنها نتيجة مباشرة لتمكين القطاع الخاص، وتحسين بيئة الأعمال، وفرض رسوم وضرائب مدروسة لا تثقل كاهل المستهلك بقدر ما تعيد توزيع الثروة وتزيد من كفاءة الإنفاق العام.

إن المؤشرات الاقتصادية الأخيرة، وخصوصاً تلك المتعلقة بنشاط القطاع الخاص غير النفطي، تقدم دليلاً دامغاً على نجاح هذه الاستراتيجية. فقد سجل مؤشر مديري المشتريات (PMI) مستويات قياسية، حيث تجاوز حاجز الثمانية والخمسين نقطة في الأشهر الأخيرة، وهو ما يشير إلى توسع قوي ومستدام في الإنتاج والطلبات الجديدة، مدفوعاً بالطلب المحلي القوي والثقة المتزايدة في مسار الاقتصاد. هذا التوسع ليس مجرد نمو كمي، بل هو تحول نوعي في طبيعة النشاط الاقتصادي، حيث تتزايد مساهمة قطاعات التكنولوجيا، والسياحة، والترفيه، والصناعات التحويلية المتقدمة.

في سياقرؤية 2030″، تعيد الميزانية التوسعية تعريف العجز الماليليصبح عجزاً استثمارياً استراتيجياً. هذا التوجه يهدف لتمويل مشاريعنوعية ذات عائد مستقبلي مرتفع، مما يضمن استثمار الدولة في محركاتنمو جديدة ويبرر استخدام الاحتياطيات أو الاقتراض لضمان استدامةالإيرادات لعقود قادمة.

إن الهدف الاستراتيجي هو تحقيق معدلات نمو سنوية للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي تتراوح بين أربعة ونصف إلى خمسة ونصف بالمائة على المدى المتوسط، وهو هدف طموح يتطلب استمرار هذا الزخم في الإنفاق الحكومي وتمكين القطاع الخاص. إن الميزانية، في جوهرها، هي الأداة التنفيذية الرئيسية لتحقيق هذا الهدف، حيث تضمن استمرار تدفق الأموال نحو المشاريع الكبرى التي ستصبح محركات النمو الجديدة. إنها عملية معقدة من المقايضة الاقتصادية، حيث يتم التضحية بالتوازن المالي القصير الأجل لصالح بناء قاعدة اقتصادية أكثر صلابة وتنوعاً على المدى الطويل.

يمكن القول إن قراءة الميزانية السعودية الأخيرة تتطلب عدسة مختلفة، عدسة لا ترى الأرقام كغاية، بل كوسيلة. إنها ليست ميزانية تهدف إلى تحقيق التوازن المالي الفوري، بل هي ميزانية تحول وطني، تستخدم القوة المالية للدولة لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي بأكمله. إنها رسالة واضحة للعالم بأن المملكة لم تعد تنتظر تقلبات أسواق الطاقة، بل أصبحت مهندساً نشطاً لمستقبلها الاقتصادي، مستثمرة في الزمن أكثر من استثمارها في الموارد، ومحولة كل ريال يُنفق إلى حجر أساس في صرح اقتصاد الغد.

 

الكاتبة. آيات الشاذلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock