مقالات

النحاس يواصل ارتفاعه مدفوعاً بشحّ المعروض المرتبط بالرسوم الجمركية

أولي هانسن، رئيس استراتيجية السلع في ساكسو بنك

تم النشر في الجمعة 2025-06-27

في ظل تراجع أسعار الطاقة نتيجة انحسار علاوة المخاطر المرتبطة بالتوترات الأخيرة في الشرق الأوسط، برز قطاع المعادن الصناعية كأفضل القطاعات أداءً ضمن مجمع السلع هذا الأسبوع. فقد ارتفع مؤشر بلومبرغ للمعادن الصناعية بنسبة 2%، مدفوعاً بموجة صعود جديدة في أسعار النحاس، الذي وسّع مكاسبه المحققة منذ بداية العام إلى نحو 22%، ليصبح من بين أفضل السلع أداءً في عام 2025.

في بورصة لندن للمعادن (LME)، تتداول عقود النحاس الآجلة لثلاثة أشهر بالقرب من أعلى مستوياتها منذ عدة أشهر، في نطاق يتراوح بين 9,800 و10,000 دولار للطن المتري. أما في بورصة “كوميكس” في نيويورك، فتتداول عقود النحاس عالي الجودة بالقرب من مستوى 5 دولارات للرطل، بعد أن بلغت ذروتها التاريخية عند 5.37 دولار في مارس، بدعم من عمليات شراء مكثفة سبقت الإعلان المنتظر عن فرض رسوم أميركية على الواردات.

 

شحّ المعروض يشعل الأسواق

يأتي الارتفاع الأخير في الأسعار في خضم أزمة شح المعروض في لندن، حيث تراجعت مخزونات النحاس في مستودعات بورصة لندن بشكل حاد خلال الأسابيع الأخيرة. فقد انخفضت الكميات المتاحة للتسليم الفوري بشكل كبير، نتيجة زيادة كبيرة في شحنات النحاس المتجهة إلى الولايات المتحدة، مع مسارعة التجار والمصنّعين إلى تأمين احتياجاتهم قبل دخول الرسوم الجديدة حيّز التنفيذ.

أدى هذا السحب الكبير من المخزونات إلى ظاهرة “الانكماش السعري” (backwardation) الواضحة، حيث يجري تداول العقود القريبة الأجل بأسعار أعلى من العقود البعيدة، وهي إشارة تقليدية على شح المعروض المادي في السوق.

ورغم أن الزخم الحالي للأسعار مدفوع بعوامل لوجستية ومتعلقة بالمخزون، فإن التوجهات طويلة الأجل تظل داعمة بشدة لسوق النحاس. ومع تسارع الاقتصاد العالمي نحو الكهربة، يغدو النحاس، باعتباره أكثر الموصلات الصناعية كفاءة وتعدداً في الاستخدام — عنصراً لا غنى عنه على نحو متزايد.

 

نمو الشبكات الكهربائية في الصين والولايات المتحدة: عملاقان يستهلكان النحاس بشراهة

تظل الصين في صدارة التوسع العالمي في الطاقة الكهربائية. فعلى مدار العقد الماضي، نما استهلاك الكهرباء في الصين بمعدل سنوي يتراوح بين 5 و6%، وهي تستهلك اليوم ضعف ما تستهلكه الولايات المتحدة. وتشير التقديرات إلى أن الطلب على الكهرباء في الصين قد يتجاوز 11,000 تيراواط ساعي (TWh) بحلول عام 2030 — أي ما يعادل إنتاج تريليون لوح شمسي، أو 1.5 مليون توربين رياح بقدرة 4 ميغاواط، أو ما يتراوح بين 1,200 و1,400 مفاعل نووي تقريباً.

في الوقت ذاته، تشهد الولايات المتحدة تركيزاً متزايداً على تعزيز إنتاج الكهرباء، ما يدفع نحو إعادة تشغيل بعض محطات الطاقة النووية لمواجهة الطلب المستقبلي، وذلك في ظل محدودية الاعتماد على مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح.

وتتوقع شركة “كونستليشن إنرجي”، أكبر مشغّل للطاقة النووية في الولايات المتحدة، أن ينمو الطلب الوطني على الكهرباء بمعدل يعادل ضعف النمو المسجل في العقد الماضي حتى عام 2030 — مدفوعاً بعوامل تشمل:

  • الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات العملاقة
  • اعتماد المركبات الكهربائية وشبكات الشحن
  • إعادة توطين الصناعات
  • طفرة البنية التحتية الرقمية بقيادة مراكز الحوسبة المتقدمة وخدمات الحوسبة السحابية كثيفة الطاقة

وتُعد هذه التطورات، ولا سيما الطفرة في البنية التحتية الرقمية وارتفاع الطلب على التبريد في بعض المناطق للتعامل مع ارتفاع درجات الحرارة، من العوامل الإضافية القوية التي تعزز الطلب على النحاس.

وبحسب الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، من المتوقع أن يرتفع الاستهلاك العالمي للنحاس من 26 مليون طن في عام 2023 إلى نحو 33 مليون طن بحلول عام 2035 — أي بزيادة قدرها 26% تقريباً، مدفوعة إلى حد كبير بالتحول إلى الطاقة النظيفة وتوسع البنية التحتية الرقمية.

 

هل نشهد بداية دورة فائقة جديدة تمتد لسنوات؟

تاريخياً، كانت السلع الأساسية تتحرك في دورات فائقة طويلة الأمد تقودها قوى الطلب، وهي فترات تمتد لعدة سنوات من العوائد المرتفعة الناتجة عن تحولات جوهرية في الاتجاهات الاقتصادية العالمية. ومن أبرز هذه الدورات:

  • 1970–1990: التوسع النقدي بعد نظام “بريتون وودز” وصدمات أسعار النفط (+780% في مؤشر بلومبرغ للسلع)
  • 2000–2020: التصنيع السريع في الصين والهند(+470%)

وقد تكون الموجة الصعودية الحالية، التي بدأت في عام 2020، بمثابة انطلاقة دورة فائقة جديدة، يقودها ما يسميه بعض المحللين بـ “العوامل الستة الكبرى وهي:

 

إزالة الكربون، تفكيك العولمة، زيادة الإنفاق الدفاعي، فك الارتباط بالدولار، التغيرات الديموغرافية، والجفاف والتغير المناخي.

ويمثل النحاس عنصراً محورياً في العديد من هذه الاتجاهات الكبرى، نظراً لدوره الحيوي في شبكات الكهرباء، وأنظمة الطاقة، والتقنيات الخضراء. فكهربة العالم، من القرى النائية في الهند إلى مراكز البيانات في الولايات المتحدة تتطلب توسعاً سريعاً ومستداماً في الشبكات الكهربائية، وهو ما يظهر بوضوح في حالة الصين.

 

التوقعات: معدن يتحرّك بثبات نحو المستقبل

يعكس الصعود الحالي في أسعار النحاس، والذي بدأ بسبب شحّ ملموس في المعروض، مدى السرعة التي يمكن أن تفرض فيها الأساسيات نفسها في سوق ضيقة. لكن ما يتجاوز هذا الضغط قصير الأجل، هو أن التحول العالمي في الطاقة يُرسي دعائم قوية لنمو هيكلي مستدام في الطلب.

وإذا فشل العرض في مجاراة هذا الطلب المتسارع — خصوصاً في ظل ضعف الاستثمارات في التعدين والتكرير — فإن السوق تتجه نحو أسعار أعلى وتقلبات متزايدة. وباعتباره واحداً من قلائل السلع التي تجمع بين زخم صعودي في المدى القريب ودوافع قوية على المدى الطويل، فإن النحاس يُرسّخ مكانته تدريجياً كـ”معدن المستقبل“.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock